كانت تلك صدفة بحتة في حوار صحفي لم اخطط له أصلاً، ولكن قُدر له أن أستهل به فترة عشر سنوات قضيتها في تسعينيات القرن الماضي متجولاً بين دول منطقة القرن الأفريقي، ولم يكن بوسعي أن اتسلح بشيء سوى عزيمتي، لا سيما، فهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتسلح به أي صحفي باحث عن الحقيقة في منطقة موبوءة بنزاعات متصلة، بل يأخذ بعضها برقاب بعض، كأنها في عناق سرمدي مع الكوارث إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. كنت أجلس منفرداً في ردهة فندق (قيون) بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا محدقاً في اللاشيء حيناً، ومتأملاً في أحايين أخرى سحنات وجوه مختلفة تتحرك امامي جيئة وذهاباً. وفجأة رأيت رتلاً من الأشقاء الصوماليين يسارعون الخطى خلف واحد منهم، يبدو على سيمائه وقاراً غير مصطنع. فأيقنت بحس الصحفي إنه شخص مهم وإن لم أدر هويته. وبدافع الفضول الذي تحركت نوازعه في دواخلي أقبلت نحو أحدهم وكان يكثر الالتفات يمنة ويسارا.. كمن يبحث عن شيء ضائع في غمرة زحام. وعندما أجابني عن سؤالي، شعرت باناقة دفينة تتقاطر مع كلماته وهو يرصها رصاً منمقاً.. كأنه يحاول أن يردم بها هُوة هُوية ثقافية سحيقة.. تماماً مثل تلك التي تتنازعنا في السودان بين أفريقانية متمنعة وعربانوية مستحيلة.. أي التي وجدنا لها ترياقاً في ما اسميناه بالسودانوية، ولم يجدِ ذلك فتيلاً!
قال لي (عبدو) هكذا نطق اسمه، وهكذا كتبه لي فيما بعد، وهكذا كان يسخر به من نفسه حينما يستدعي الحديث اللغة ومزالقها، وذلك في لقاءاتنا التي تكررت فيما بعد واكتشفت فيها روحه المرحة والساخرة معاً، أي على عكس الصرامة والشدَّة الزائدتين والتي نشارك فيهما أشقاءنا الصوماليين أيضاً. المهم أن عبدو قال لي اختصاراً: هذا هو السيد الرئيس. قلت له: أيهم؟ وكنت أعني ما أقول، فقد كان الصومال الشقيق خارجاً لتوه من محنة سياد بري، وغرق في التو نفسه في محنة جنرالات الحرب الكُثر، والذين اصبحوا كلهم رؤساء ضربة لازب! لكن عبدو بدّد غيمة تساؤلي وأمطرني بوابل من سيرة ذاتية مُحكمة، أهم ما فيها أن الرئيس المعنِي هو السيد محمد إبراهيم عقال رئيس جمهورية أرض الصومال أو (صومالي لاند) كما يقال عنها أحياناً. فقلت لعبدو بعد تعريفه بهويتي أريد أن أحاوره. فقال لي لماذا لا تكتب مذكرة صغيرة بهذا المعنى، وسأعرضها عليه لعله يوافق. وبعد أن فعلت أخذها مني وعاد من قبل أن يرتد إليَّ طرفي، وهي ممهورة بموافقة رئيس لا أعرف عنه شيئاً. ثم قادني عبدو إلى داخل غرفته، فوجدته وحيداً فحييته، وأنا مشتت الفكر بين تمعن شخصيته وبين استجماع معلومات لأمر جاء بغتة ولم أحسن الإعداد له. جلسنا وكان عبدو ثالثنا، وعرفت منه للتو إنه سكرتير الرئيس. ثمَّ بدأت في تشغيل جهاز تسجيلي الذي لم يكن صدفة معي.. لأنني كنت لا أطيق فراقه. تحدث السيد الرئيس حديثاً شفيفاً، لم أحسب إنه سيكون بمثابة خطوة أولى في مشوار الألف ميل.. في التعرف عليه وعلى بلاده وما جاورها.. عن كثب!
أذكر من الأشياء التي لا تُنسى سؤالي الاستنكاري له في ذلك الحوار عن ألا أحد اعترف بهم بالرغم من إعلانهم الجمهورية؟ واردفت ألا يشكل ذلك هاجساً لكم؟ االغريب في الأمر إنه لم ينف ذلك فحسب، بل قال إنهم غير مشغولين بهذا الأمر بتاتاً. فعقبت عليه وأنا استبطن سخرية غير لائقة، وقلت: إذا كان عدم الاعتراف لا يشكل هاجساً فما الذي يفترض أن يشكل هاجساً لكم؟ فقال لي اختصاراً كأنه يريد ان يلقمني خبرةً وتجربة نافعة: التنمية والإنسان الصومالي الذي خرج منهكاً من ديكتاتورية مؤلمة، وبناء دولة من الصفر. ولكن نتيجة لعدم ثقتي في مثل هذه الأقاويل التي ثقبت آذاننا من آخرين، كان علىّ أن أتقبل اجابته وكأنني أتأمل في وجهه قسمات المهاتما غاندي. ثمَّ طفق الرئيس يحكي لي عن ولادة تلك الدولة في مؤتمر بورما في مايو عام 1991 أي عقب سقوط نظام سياد بري مباشرة. وحكى لي الكيفية التي امتدّ فيها ذلك المؤتمر إلى أربعة أشهر بالتمام والكمال. وعندما أبديت له استغرابي من طول المدة الزمنية، قال لي إنهم حرصوا وفق تقليد صومالي تليد تحاشي التصويت لأنه يفسد النفوس. وعوضاً عن ذلك فهم قد جنحوا إلى محاولة إرضاء كل الأطراف والتي تشهد احياناً تغيراً وتبدلاً في المواقف بين الرافضين والموافقين. وقال لي إن ذلك المؤتمر اختار السيد عبد الرحمن علي تور رئيساً للجمهورية 1991-1993 وأن شخصه يعد الثاني بعد أول انتخابات ديمقراطية رئاسية، والتي كانت حين إلتقيته مطلع العام 1993
بيد أن الأهم من كل ذلك أن الرئيس في حديثه ذاك كان يُصر إصراراً لا يخلو من خيبة أمل دفينة، في أنهم لم ينفصلوا عن الجنوب الصومالي، وإنما أرجعوا عقارب التاريخ للوراء وصححوا وضعاً صنعوه بأيديهم حباً في الوحدة معه. واوضح لي ذلك بقوله: إن الشمال كان تحت الاحتلال البريطاني ونال استقلاله يوم 26/6/1960 واصبحت عاصمته هرجيسا، وبعد خمسة أيام من ذلك نال الجنوب استقلاله من إيطاليا يوم 1/7/1960 فقام وفد من أهل الشمال ورأسهم السيد عقال نفسه وأعلنوا الوحدة مع الجنوب في مقديشو. وقد يبدو في ذلك منطقاً، ولكنه (لن يقنع الديك) كما نقول في أمثالنا السودانية الدارجة! على كلٍ كان عليّ بعد تلك المقابلة أن أتردد كثيراً على أرض الصومال كأنني أريد أن اكتشف مصداقية محدثي على أرض الواقع. زرت مدناً كثيرة في جميع الاتجاهات، بدءً من هرجيسا العاصمة مروراً ببربرة الميناء المطل على المحيط الهندي، ومدناً ضاربة في أطناب التاريخ الصومالي مثل بورما وبرعو وعيرقابو، وحرصت على أن أخفف الوطء على أديم الأرض من كثرة ما احتوته من مقابر جماعية لضحايا نظام سياد بري.
شهدت نقاشات وحوارات في البرلمان الوليد. توقفت على نشاط مجلس الوزراء وحاورت أكثرهم. لمست بناء مؤسسات الشرطة وإعادة تأهيل القوات المسلحة. رأيت مستشفيات ومدارس فتحت أبوابها. دخلت مصارف وشاهدت عملة ورقية وجوازات سفر جديدة. قرأت صحفاً دارت مطابعها وتملك المعارضة بعضها، تكتب بحرية دون أن يقول أحد إنها تجاوزت الخطوط الحمراء أو الصفراء. اطّلعت على دستور تراضوا حوله. تحدثت إلى مواطنين ينعمون بالأمن والاستقرار دون (كلاشنكوف) يسترخي على أكتافهم. وايماناً مني بتلك التجربة الفريدة، بذلت قصارى جهدي في نقل تلك الصورة المثالية عبر الوسائل الإعلامية التي كنت أعمل معها.. غير مكترث بعدم الاعتراف الدولي كما الرئيس تماماً!
في العام 1998 اندلعت الحرب الأثيوبية الأريترية ورجت منطقة القرن الأفريقي بأكملها رجاً. كانت الحرب كمطر الصيف تندلع هنيهة وتتوقف هنيهة أخرى، فاقتنصت فرصة بين هنيهتين واقترحت على طاقم قناة الجزيرة التي كنت أتعاون معها، أن نوثق لتلك الجمهورية التي لم يعترف بها أحد، رغم مرور سنوات على ولادتها. وبالفعل حدث ذلك في حلقات متسلسلة كانت مثار إعجاب مشاهديها، وبنفس القدر أورثتني فخراً في أن أمنح تلك الأرض وفاءً بعد تعرّفي على الوجه الآخر للإنسان الصومالي. كنت سعيداً لسعادة الرئيس عقال والذي تلاشت الحواجز بيننا وأصبحت علاقتي به مثل علاقة الابن بوالده، بل هو لم يتحرج أن يناديني بذلك أحيانأ. وبالطبع لم تخلو الصورة من تراجيديا المفارقات، كانت تغطياتي قد شملت الجنوب الصومالي أيضاً، حيث المأساة الإنسانية تكتب فصولها منذ أكثر من عقدين في سفرٍ فريد. غرقت البلاد في أتون العنف ولم يثر ذلك حفيظة أحد، تلاشت الدولة الوطنية ولم يستدعِ ذلك رثاء أحد، أصبحت الجمهورية نموذجاً للدولة الفاشلة ولم تنبجس دمعة من عين أحد! ثمَّ لا عزاء للمواطن الصومالي الذي دفع ضريبة الفشل بالموت سحقاً في الداخل والموت قهراً في الخارج. والمفارقة إنني كِدت أن أتجرع كأس الموت نفسه في مواقف كثيرة لا إدعاء لبطولة فيها.. إلى أن قُدر لي أن أغادر منطقة القرن الأفريقي كلها، وأعبر المحيط الأطلسي مستهل الالفية الثانية في هجرة جديدة حيث أعيش الآن. أما الرئيس عقال فقد غادر دارنا الفانية إلى دار الخلود، واحسبه من فرط حبه لبلاده سيسأل ملائكة السماء انصافاً لدولة لم يعترف بها أحد في الأرض!
الذي حدث أن شعب أرض الصومال قام بعملية حضارية بعد رحيل عقال، إذ تم اختيار نائبه السيد طاهر ريالي كاهن رئيس الحزب الديمقراطي الشعبي في انتخابات ديمقراطية عام 2003 وأصبح الرئيس الثالث للدولة. ظللت أتابع مسار الجمهورية المثيرة للانتباه من على البعد، ومن محاسن الصدف قُدر لي قبل نحو ثلاثة أعوام تقريباً، أن ألتقي صدفة أحد الأصدقاء القدامى الذين نشأت بيني وبينهم علاقة وطيدة، وهو السيد محمود صالح نور وكان وزيراً للخارجية في حقبة الرئيس عقال. سألته متشوقاً عن الذي تغير في بلادهم؟ فقال لي: لا شيء سوى إنني زعيم المعارضة في البرلمان الآن. ومحمود لمن لا يعرفه، هو سياسي محنك، ومثقف موسوعي لا يكتمل حديثه إلاَّ بمثل سائد أو طرفة تليدة أو بيت من الشعر، فقلت له: طالما الأمر كذلك فإذن ديمقراطيتكم ما زالت بخير. وقد اتّضح لي فعلاً إنها بخير بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت قبل نحو أسبوعين، حيث فاز زعيم المعارضة رئيس حزب التضامن أحمد محمد محمود (سيلانيو) على الرئيس طاهر ريالي كاهن، وشارك فيها أيضاً فيصل علي وارابي رئيس حزب العدالة والتنمية وهو الحزب الثالث في الساحة. تلك ظاهرة يندر أن تراها في هذه القارة المنكوبة بديكتاتورياتها العتيدة. وقد أغنت المراقبين الدوليين عن قولهم إنها كانت انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، كما أن الرئيس المهزوم نفسه تقبل النتيجة بروح طيبة انتصاراً للديمقراطية!
صفوة القول إن هذه الانتخابات تزامنت مع مرور الذكرى الخمسين لاستقلال الصومال بشقيه الشمالي والجنوبي. وعين المفارقة فيها، إنه بينما اختار شعب أرض الصومال إحياء المناسبة بتلك الانتخابات الحضارية في ضوء اليوبيل الذي يفترض أن يكون ذهبياً، كانت طيور الظلام التي تعشش في الجنوب الصومالي تتحدث عن حُرمة الانتخابات في ظل يوبيلها الذي ما زال دموياً. فقد أفتى ما يسمى بتنظيم شباب المجاهدين على لسان أحد سدنته الموالين لتنظيم القاعدة أن (الانتخابات حرام وضعها الغرب الكافر وعليكم أن تختاروا طريق الله) وهؤلاء هم أنفسهم الذين حرّموا مشاهدة المونديال باعتباره رجساً من عمل الشيطان، وهم أنفسهم الذين قالوا إن حل مشكلة الصومال يكمن في إطالة اللحى. إنهم أشقاء عصبة لنا ممن دأبوا المتاجرة بدين الله، ليفتحوا الأبواب ويخرج منه عباده أفواجاً. يملأون الدنيا ضجيجاً بقولهم (هي لله) وهم والغون في شهواتها، يبطنون بغير ما يظهرون ويقولون (لا للسلطة) وهم غارقون في ملذاتها، ويفترون كذباً ويقولون (لا للجاه) وهم من وضع للفساد كتاباً في سفر الخلود!
اصدقوا مرةً مع ربكم وأنفسكم ومواطنيكم.. وخذوا الحكمة من الجمهورية التي لم يعترف بها أحد!!